أنتِ والغربة..

أنا أتراجعُ عن كلّ ما قلته،
أتذكربن عندما كشفتُ عن شهامتي؟ عندما تحررتُ من كوني "الولد المدلل" وقفزتُ في فوّهة العالم؟ تلك اللحظة التي أعلنتُ فيها شجاعتي؟
نعم هذه، كلّها لحظاتٌ مصطنعة.
كُنت أكذب،
أنا محتال، كذبتُ عليّ وعليكم.
حالَ أن حطّت أقدامي على أرض الغُربة أحسستُ بالنقص، كما أنني لستُ أنا. أعتقدُ ٱنني نسيتُني هناك، حيث الحياة والأسرة. حيثُ النّسيم الحارق -الذي اشتاق-. أصبحتُ أشعُر بالفراغ، صدى التَّوق يترددُ بين دمي وجلدي،يُضخّم حجم المعاناة، "يحبسُني"مسافة.
المكانُ عديمُ الرائحة، لا دليل على وجود الحياة فيه. وكأنني -وحدي- أتعايش مع اللاشيء هُنا. كآدم، كوِحدته.. غُربة، خوف، ذنب.
إنني أشتاقُ لرائحة قهوتكِ يا أمي. الرائحة ذاتها التي كانت تسبب لي الغثيان، التي كُنت أتذمّر يوميًّا منها، إنني بأمس الحاجة لها الآن، أظنّ أنها قد تمدّ يداً من البارح ، وتلتقفني، تأتي بكِ إليّ، تطوي الدروب والمسافات وتقربكِ مني. بتّ الآن يا أمي أحضّرها صباحاً، لكن لا لأشربها. أجعلها تغرقُ المكان بحضورها، تستولي على الكلّ شيء، تأخذني لتلك الصباحات التي جمعتها بكِ.
أنا محتالٌ وكاذبٌ يا أمي، لا أصلح لتمثيل دور الابن البار، فقد كُنت أكذبُ عليك. في كلّ اتّصال، عندما تسألينني "كيف حالك" أتظاهرُ بالـ"على أفضل حال" ولكن الحقيقة هي أنني الليلة التي تسبق اتصالكِ لم أنم جيّداً، قضيتُ ثلثي ليلي بكاءً، كطفلٍ رضيع. البعدُ عنكِ أعادني لطفولتي، لتلك المرحلة التي كنت أعجز فيها عن فراقك.
عندما أعود من الخارج، يتراكضُ قلبي مسابقاً لساني كي يناديكِ، كي يعلن هزيمته أمام عظمة فراقكِ. سئمت السقوط يا أمي، ونهوضي الوحيد بكِ. ولكن، هذه ليست مصيبتي الأكبر. .
الليل هو الجزء الاشد رعباً في هذه الحياة. إنني أهرول لفراشي يا أمي، أهرول!! كطفلٍ شاهد للتوّ مشهد رعبٍ أو ما شابه ذلك. عندما أغلق الأنوار، تتسابقُ إليّ كل تلك الأصوات والتخيّلات، تهاجمُني. تمنعُني من النوم أو من السير في طريق الحياة دون أن أتعرض للألم.
الغُربة تبتلعني يا أمي، تُلقي بي في الهاوية. أنتِ الوحيدةُ القادرة على أن تقتلعني من ألمي هذا، الوحيدة.
اقتَصري المسافات، تعالي واحتَضني ابنكِ الضائع في دهاليزها.

تعليقات

المشاركات الشائعة