أيتمنا العبّاس


يتوارى الموتُ في صفوف المعزّين، يدّثّرُ بالتّرابِ كي لا يُرى، خجولٌ من عظيمِ ما أذنب؛ بأن أخذ الأمانَ من الحياة، وأن ألقى على خيامِ العِيالِ الظمَأ والجزع. مستحٍ هو، كيفَ سيقفُ بوجهِ النّهر ويعتذر، أو كيفَ سيُعيد استقامة عمَدِ الخيمةِ المنكسِر كظهر أخيه. للموت مسائلُ معلّقة مع الرّاية المتمرّغة باليُتم، متى ستُحلّ المسائل؟ علّها ستُحلّ حين تُرفع الرّاية مجدداً بأكفٍّ هاشميّة تحملُ بأسَ العبّاس.
-
رايَتُك التي ما نُكِسَت قط، تلك التي بقيَت تُداعب السّماءَ بشموخها، تسقُط.. تتوسّد رمال كربلاء. تسمعُ بكائيّاتها، ترى نزفاً من موضع إمساكِكَ بها، إنها تنزفُ عزّها، تنزفُ "العبّاس" من رايَتِه. تتحولُ عباءةً لمواساةِ زينب، كي تنوحا معاً في دربِ السّبي. أيا عبّاس.. أيتمتَ الراية.
-
حالما سَقَطْتَ من على المرتجِز، اختلّ توازنُ الكون، انهزَم لوهلةٍ بسقوطك. لقد كانَ العالمُ محمولاً بينَ كفّيْك، فكيف به والكفّان مقطوعتان؟ متزلزلٌ لا ثباتَ فيه؛ كخطواتِ الحُسين نحوك في اللحظات الأخيرة.. كارتعاشةِ يديه وهو يحملُ رأسك من على حرّ الرّمضاء لبارِدِ كنفِه. أيا عبّاس، أيتَمت أخوّة الحُسين.
-
نورُ عينيكَ في الخيمة، تنتظِر.. يُسطّر في بالِها أبلغُ ما سيُقال في عتابِ الأختِ لأخيها، ولكنّك رحلت وما تسنّت لها الفرصةُ لتُعاتِبك، ما وهبتَها سوى فرصةٍ أزليّةٍ لأن تنعاكَ.. جروحُك تنضحُ بـ"زينب" وكلّها ينضحُ بك. ما إن رحلتَ حتى استَقْبَلَتْها الدّنيا بسبيٍ وافتجاع، وكأنّه إخبارٌ لها أنّ هذه دُنياكِ دونه. أيا عبّاس.. أيتمتَ خِدرَ زينب.
-
بعدَ أن رحلتَ لربّك، بكتكَ القِربةُ بجدْبِها، وحِشَ جوفها للماءِ والشّعور بالسّقي/الارتواء، ما تعيشُ الآن سوى عطشٍ يشقّ طريقه في ملامِحها، كهِلت قِربتكَ بجفافها وألم البُعد عندك، تاقت نفسُها لأن تُدرِك ابتساماتِ العيال حال لقائهم بقطرةٍ من الماء. ما تطيقُ البقاء بعدكَ دون جودِك، فدتكَ بنفسها، أخذت سهماً عنك؛ ففاضت روحُ ريِّها للسّماء، وخرّت عطشى كحالِكم. أيا عبّاس.. أيتمتَ القِربة.
-
من عاداتكَ أن تأتي النّهر بين حينٍ وآخر، كارتياد والدِكَ أبوابَ اليتامى.. أن تأتيه بحنوّ الأب، أن تمسحَ على الماء كمسحِ الوالِد على وجهِ وِلدهجفّت مياه النّهر من الانتظار، وما أتيتَه؛ لم يكُن يدري بأن الـ"وتشربينَ باردَ المعين؟" كان سؤالاً يُنذر بالبعد، بالرّحيل للكوثَر. أيا عبّاس.. أيتمتَ النّهر.
-
الرّاية والقِربة والنّهر، الأخوّة والخِدر
أيتمتَ كلّ هذا يا عبّاس، أيتمتَ الكونَ أيّها العبدُ الصالح، فبعينيَ عينُكَ المُدماة، وبروحيَ كفّك السّاقي للعطاشى.. "أيتمنا العبّاس" يصرخُ الكونُ بوَجَل.

تعليقات

المشاركات الشائعة