أبجديّة الثكل

‏أيّها الرّباب..
‏هُزّي إليكِ بطرفِ المهدِ يسّاقطُ عليكِ ثكلٌ جَزِل. أواضحٌ تيبُّسُ المهد؟ أمألوفٌ لكِ؟ أما ذكّركِ بخدّ "نفسِكِ" المتصحِّر؟ استمعي صوتَ العطشِ للمرّة الأولى.. نعم؛ هذا هو صوتُ العطش، بكاءُ ابنكِ الـ لا يُسمَع، انقطاعُ صوته المُستمِر وصرخاته الموشكةُ على التلاشي، كلّ هذا هو صوتُ العطش، مُتجلٍّ بملائكيّة هذا الصغير.
‏-
‏ساعدَ الله روحكِ أيّتها المثكولة، رحِم الله ضمورَ أعضائكِ الذي نسيتيه -وما أظنّ أنّكِ ذكرتيهِ قطّ- في حضرةِ رضيعِك. أعيُنُكِ التي تعصُرينَ كي تَنزُفَ دمعاً يسقي ابنكِ، ولكنّها ما ذرفَت لكِ سوى نهر فقدٍ أزليّ دونَ ماءِ دمعٍ جافٍّ كلبنِ أمومتكِ. ساعدَ الله عنقكِ المجروح مِن صغيرك اليابسةُ بنانه، عنقكِ الذي تحوّل لخارطةٍ من الظّمأ، حُفر فيها مجرىً للنّهر بيدَيْه، وسالَ فيهِ دمعُه، عنُقكِ ذاته الذي تحشرجَت فيهِ الغصّاتٌ والأنّات وأصواتُ الأمومة. للهِ أمومتكِ يا رباب.
‏-
‏تعزَّيْ بوحشةِ المهد. ناغي الفراغَ الذي يُعانيه، "يالولَد نـام".. ليردَّ عليكِ صوتُ تهويداتك، استمعي لصداها واشعُري برحيلِ الولَد. رحَل/نامَ نوماً أبديّاً وأهداكِ معهُ سهادًا أزليّاً. عزّي أمومتكِ الفارغة، عزّيها بفقدِ سبَبِها وعلّة وجودِها. عيشي ظُلمةَ حياتكِ بعد مغيبِ شمسِها، قومي ثُلثَيْها بُكاءً ونُدبةً واقضي الثلثَ الأخيرَ بتذكّر كلّ تفصيلٍ من أشهرهِ المعدودة.
‏-
‏لا تخافي عليهِ يا أمّه، إنّه يتقلّب على أجنحةِ الملائكة في نومه، يرتوي من نهرِ الجنّة. لا عطشٌ ولا خوفٌ ولا حزن. إنّه لا يعرف هناك سوى الفرح والارتياح، لن يبكيَ أبداً. ستأخذ جدّته الزّهراء بيدِه لتُلاعبه. لا تخافي. كلمتهُ الأولى، خطوَته المُتبعةُ بسقوطٍ أوّل؛ طفولتهُ التي ستُفّوّتين.. ستكونُ فِردوسيّةً.

تعليقات

المشاركات الشائعة