الحبّ والحرب..

السبت ١٢مارس٢٠١٦م.
إنني حرٌ سجين. مُنذ خمسة أشهرٍ أُخذت ورُميت في السجن بتهمة طلب الحرية ومحاربة الظلم. بعد أُسبوعٍ تماماً موعدُ إعدامي..
وأنا بكامل استعدادي سأسقط على الأرض معدوماً
كي تسقط الحرب.
إنني دونَ أهل ، دونَ أصدقاء ، ولكنني مليئٌ بالحب. أُحب تلكَ المرأة التي هي وحدها ولا أحد سواها يمدّني بالقوة ، بالشجاعة لأحارب. هي من تضمّد جراحي بقبلتها ، من تمسح على رأسي لتبثّ فيّ حبّها. كانت لي الأم والأخت والصديقة
حبيبتي. هي السبب الذي أقاتل من أجله.
كُنت أنعم في جنانها ، أرتوي من سلسبيلها ، أتدثّر بحنوّها ، أطمع بحبّها ، أهوى هواها ، أتنفّس ريح الحب , أعيش في جناتٍ من نورٍ وترانيم الملائكة تحوطني.
أما الآن ، فأنا بين أربع جدرانٍ لا أبصر سوى السواد ، متعفرٌ جسدي برمالٍ ممزوجةٍ بدمي ، أصوات خرير الماء والسياط الضاربة للمتون ، رائحة الموتِ المعتّق تسبق رائحة الدمّ البريئ. كلّ هذا وحبيبتي بعيدة ، إن قوايَ خائرة. إنني ساقطٌ في جبّ الضياع وهي من ستمرّ فترفعني.
في الليلة ذاتها ، طلبتُ ورقةً وقلم. سأكتب لها رِسالة..
-
حبيبَتي..
سلامٌ بمزجِ الدمعِ والحب والشوق على عينيكِ. سلامٌ عليكِ من شائقٍ يتمنّى لُقياكِ. سلامٌ من شفتيّ أُرسله ليُلامس وجنتيكِ. سلامٌ من حرٍّ سجينٍ لحريّته الساكنة فيكِ..
أما بعد..
إنني قد نسيتُ كيفَ أرى النور ، نسيتُ كيف للجمال أن يكون جميلاً وسط دمامة العالم هذه. فقدتُ الشعور برَحابة الأرض وبوُسع السماء ، لم يعد يضمّني في الأرض سوى هذه الزاوية الصغيرة من زوايا زنزانتي ، إنها صارت بلدي ، موطني ، أرضي. لم أعد أشعُر بالحياة ، إنني منذ أن دخلت هذا السجن -منذ خمسة شهور- لم أشعر إلا بطعم الدم ، مذاق الموت الشهيّ الذي يجعلني أجوع للعروج فأشتهيه أكثر فأكثر ؛ أبحث عن سُبلي إليه ، بجانب بحثي عن سُبلي إليكِ. إنني أبحث عن سبيلٍ للموت وسبيلٍ للحياة في آنٍ واحد.
أنا أشتاقكِ يا نور عيني ، أشتاقُ النظر إليكِ والتحدثَ معكِ ، والتعفّر بحبّكِ. لم أركِ مُنذ زمن ، ولكنني سأستطيع الآن.
قابليني في مكان لقائنا الأول ، عند الساعة الخامسة فجراً .

-----
السبت١٩مارس٢٠١٦م.
في الساعة الرابعة والنصف فجراً أُخذت إلى حيث طلبت منهم إعدامي وقد -للعجب- لبّوا طلبي! أخذوني لمكان لقائنا الأول ، لأصير شهيد الحبّ والحرب معاً..
في الساعة الخامسة ، طلبت منهم أن يُمهلوني عشر دقائقٍ فقط ، أنا أعرفها ، إنها لا تتأخر عن مواعيدها أبداً.. قلت لهم أن يختبؤوا خلف الحطام ، كي أكون أنا وهيَ فقط.
وقد أتت حقاً في الساعة الخامسة تماماً. ابتسمتُ وردّت إلي الابتسامة مصحوبةً بالدمع ، رُحت لها ، ضممتُها ، قبلتُها وأفصحت عن شوقي لها..
وضعتُ الرسالة بين يديها وابتسمت
"اقرئيها عندما أرحل.."
بكَت.. وهي تظنّ أنني عائدٌ للسجن..
صرختُ بأعلى صوتي "أنا جاهز"..
-
حبيبتُه:
صرخ "أنا جاهز"
فأحاطت بيَ الأسئلة والتساؤلات
جاهزٌ لماذا؟
فيخرجُ جنديٌ من اللا أدري كي يردّ لي الجواب ، يضغطُ على الزِناد
يُطلق الرصاصة..
اخترقت رصاصته قلباً أحبني وأحببته ، فلقت فؤاداً احتواني..
إنني صرت مشرّدة!
سقطت الرصاصةُ أمامي..
سقطَ هو مبتسماً..
"إنكِ سببُ قتالي ياحبيَ وحربي.."
لآخرِ لحظةٍ ، هو يحبّني..
تسقط الحرب.
تطايرت دماؤه في السماء وعلى الأرض ، صارت ملابسي تحوي بعضاً من دمه ، من عبق جنانه ، من رائحته..
رائحة الشهادة تفوح من سلسبيله الأحمر..
بكيت.. زغردتُ وصرخت.. ابتسمت وحاكيته..
وضعت رأسه في حجري وأخذت بالكلام حتى هلكتُ ففتحت الرسالة..
"عندما تقرئين هذه الرسالة.. اعلمي أني راحل..
ولكن لا تقلقي ، إنني لم أمت ، استشهدتُ فقط
......."
بللتها بدموعي. بدأت الشمسُ تشرق. إن الشروق أفضل أوقاته. سأتوسد التراب ودماءه وأشاهد الشروق ، سأنامُ على صدره وأغني له كي يغفو...

تعليقات

المشاركات الشائعة