عروج.

ظلامٌ يتفشى، صمتٌ يكتسح أرجاء المكان، وعينان تأرقان هُنا- في زاوية العالم حيثُ اللا أحد يهتم لها. تملأ الزاوية بماء دمعها. وتغرقُ به. ها هي ذا تغرق.. ولا أحد يكترثُ لها. تلوّح بيديها، تلويحة الغريق الذي تتراقص روحه على شفا الموت. تطلب طلباً أخيرًا:"أغنية الرحيل" ترقُص على ذِكرياتِها، على أشواك الاشتياق لذاك الذي كان. تحطّ بقدميها على زجاج روحها المتحطّمة. تقفزُ فوق الكلمات، تدهسُ على تلكَ التي كانت تُرمى عليها، تلكَ التي تأتي من كلّ مكانٍ تستهدف قلبها. وكانت تصمد. كيف؟ لا أدري. توشكُ على الغرق؛ ترحلُ بوجدانها لتلك المدينة الفاضلة التي كانت ولا تزال حتى لحظاتها الأخيرة هذه تتمنى الوصول لها. تلك المدينة التي تمنع دخول الأجساد إليها. الأرواح فقط. جسدُك يدنّسك. يجعلكَ مُذنباً. ذنب أن تكون إنسان. هذا الجسد يصيّرك محبًا للمظهر. محبًا للزوال. انزعه ثمّ ادخل لهذه الأرض. ادخل بروحك طاهرًا مطمئنًا.
توشك الأغنية على الإنتهاء.. ها هي نغماتُها الأخيرة تُعزف. وها هو الدمع يجرّها للأسفل، للقاع حيثُ لا رجعة. أغمضت عينيها. ابتلعت الدَمع كلّه، استنشقَت بقايا الأغنية واحتوتها في صدرها. صار تجويف جسدها مليءٌ بالموسيقى. الموسيقى المخلوطة بالدمع. إنها تصنع سيمفونيّتها الخاصة، وتعرُج بها.
على بوابة السماء الأولى تقف: تُستقبل على السجّاد الأحمر، تحيط بها لزاجةُ الدم. الدمُ حديثُ السَفك. تُطبع على جسمها بصماتُ أيادٍ مليئة بالبارود. إنها الآن تحمل ألم العالم الأول. تصل للبوابة الثانية: رائحة حبٍّ كثير، خوفٌ أكثر. الجوّ مليءٌ بشعور الـ"جنّة". تترامى عليها مخاوفُ الأمهات، تجتمعُ رجفاتهُن كلّها في يديها. إنها تنتفض. تنهمرُ عليها بكائياتٌ من السّماء، تغسلُها، تطهّرها، وتؤهّلها للسّرمديّة بعيداً عن العالم. تصل للبوّابة الثالثة والأخيرة: الحلوى تنبتُ من جروح الأرض، الأنهارُ بطعم السُكّر. الطيور لا تغرّد، لا. إنها تغنّي للشمس صباحًا وتُهوّد تهويدة النّوم ليلاً. الملائكةُ تمشي على الأرض، تُصاحب الأطفال. ألمٌ مفاجئ، العالم يرتعش. وحشُ النضج قد أتى، يلتهم المكان. يقضم الأرض ويرتشف ماء السماء. يُلقي على الأطفال لعنة الكِبَر. وها هو يلعنها هي أيضًا. إنها الآن مُترعةٌ بالشيب. ها هو الألم الثالث. ألم النضج يعتريها.
إنها جاهزةٌ للعروج، بعد أن احتوَت آلام العالم الثلاث؛ ألم الشهيد حتى يعلن انتصار الدّم على السيف. الأم حتى تصبح عدمًا وتندثر ذكرى أبنائها. الطفل حتى يشيب ويصيبه النسيان.

تعليقات

المشاركات الشائعة