تحت الركام

رُحنا نبحث عن الإنسانيّة، عن الضمير المفقود،
علّه ضاع تحت الأنقاض، كُسِرت رجله فلم يقوَ على النهوض
لرُبّما هو يبحثُ عنا كما نبحثُ عنه نحن. رُبّما هُدِم منزله
أو نخر الحُزن عظامه فخارَت قواه. من المُمكن أنه يحتمي تحت خرابة، أو تحت سقفٍ آيلٍ للسقوط. لعلّه فقد أهله أو الأصدقاء، لعلّه فقد نفسه!
استمرت رحلةُ البحث وهي تزدادُ يأسًا بازدياد الثواني. لا وجود للضمير ولا أثر. ولكننا سمَعنا صوتًا ضعيفًا من بعيد. ليس بصوت بكاء، ولا استغاثة ؛ بل صوت صراعٍ مع البقاء. صوت رجلٍ يكافح، يصفعُ الآلام، يجرّ أنفاسه من الثقوب الصغيرة كي يقهر الموت. شققنا الطريق نحوَ الصوت. لم يكُن ضميرًا، لم يكن رجلاً. كان طفلاً.
ثيابهُ مُمزّقة، مُتكوّرٌ على نفسه في زاويةٍ تغرقُ بالظلام والوحشة. يضمّ رجليه إلى صدره، يُخبئ رأسه بين رجليه، كرويٌّ جدًا.. أقرب إلى الكرة من كونه طفلاً/إنسانًا. يهتز.. إلى الأمام والخلف.. الأمام والخلف. يتمتمُ بصوتٍ مُنخفض، يبدو أنه يُهدّئ نفسه، يهزّ نفسه وكأنه على أرجوحة. يمسحُ على كتِفَيه، على جروحه التي التأمت دون ضِماد. يربتُ على روحِه؛ يستذكرُ يدَ أمّه، قبلاتها على جراحه، مسحها على ظهره، همسها بما يبعث بالسّكينة في نفسه. أخذ يُقبّل ندوبه وكأنما هو أمّه -علّه يحتوي على بعضٍ من دوائها- ولكن الأمر لا ينفع معه. إن ذاك السّر في ثغرها فقط. وهي تتمتّع الآن بنعيمٍ أزليٍّ في الأعلى، وابنُها تائهٌ في دهاليز الحرب. وحيد.

مُغمضٌ عينيه.. يبتسم تارةً وتموت ابتسامته تارةً أُخرى. أظنّه يسترجع تلك الأيام التي كانت.. أيام كان الصباحُ صوت أمّه وضحكات أخته. أيام كان النهارُ دروس حياةٍ من والده ولعبٌ مع أخيه. أيام كان الليل سُباتًا والفجرُ مصنع أحلام.
ولكن أين تلكَ الأيام؟ إنها احترقت بنار الحرب، واندثَرت رمادًا على وجه الزّوال؛ فصارت لا شيء، صارت منسيَّة.
يتجرَّع نغب الدمع أنفاسًا. يكبتُ بكاءه ويوسّده بين أضلعه. يرميه في أعمق عمقٍ فيه كي لا ينهمر من عينيه. أباهُ قد علّمه أن الرّجال لا يبكون.
لا تقلق ياصغيري. ابك. ستعتادُ الأمر؛ إنه كما ترى سُنّة الحياة.

يشهق موتاً ويزفرُ آهات. يزفر وجع أمةٍ بأكملها. مدّثرٌ بالتُراب، مُتوشّحٌ بالدماء. يرسمُ بأصابعه لوحات الكفاح على الأرض. يرسم قبراً ، عرباً ، وضمير. قبر الضمير العربي. الضمير العربيّ المفقود؛ لم نجِده. اعترتنا الخيبة. سنُعلن وفاته.
ماتت الطفولة ثكلاً بأطفالها ولم يشرُق الضمير بعد، شرّدت عوائل ودمّرت أوطان، ولم يأت الضمير مُنقذًا. إنه ميّت. متوفّى. هذا أكيد.
#عمران_تحت_الركام

تعليقات

المشاركات الشائعة