انتقامُ ذِكرى

٣:٠٢صباحًا:
هدوءٌ زمهرير. الكلّ موتى/نيام. وأبقى أنا أصارع الحياة راجيةً الموت، فلا يأتي ولا يُرسل ابنه الأصغر! يتضاربُ رأسي مع الوسادة. تركلُ رجلي في الفضاء الفارغ. الكونُ الهائل ذا ساكن، والفراغاتُ بين أضلعي مليئةٌ بالإزعاج، تُصيبها الرجفةُ من صخبي.
أستطيعُ أن أسمع كلّ شيء. صوت انتحار قطرات المياه، ولادةُ زهرةٍ جديدة، مواساةُ التراب لمن سكَنها للتوّ، هروب السكَّر من على ظهر النملة
كلّ شيء.. كل شيء.
ولا أستطيعُ أن أسمع صوتي. الأصواتُ الكثيرةُ التي تتفجَّرُ في داخلي تحجبه. تدفنهُ في أعمق عمقٍ فيّ. صرخات الذكريات تمنعني من أن أسمعني.
تتدافعُ عليّ، تتنافس على من سيسقطني في أغوار الألم أولاً.
الأصوات المزعجة كلّها صوتي.. كلّها كانت أنا في يومٍ من الأيام..
عندما سافرت أمي لأول مرة وتركتني.. عندما ضاعت دُميتي المفضلة.. عندما صرخَ عليّ أبي واتّهمني بأنني كبِرت.. عندما أُجبرت على أخذ نفسٍ في أنبوب التخدير الغبيّ.. عندما سخرت مني فتاةٌ في الصفّ الثاني الابتدائي.. عندما تألّه الجميع وصرتُ أنا المُخطئ المذنب الذي لا يتطهّر.. عندما كبرت وتشبّثت بي هذه الذكريات، أبت أن أنساها. تسرطنت فيّ حتى أصبحت هي أنا.
شريطُ الدموع هذا لا يزالُ يتكررُ أمام عينيّ كحياةٍ تُتلى على تارِكها؛ وكأن حياتي لم تكُن سوى دموعٍ في دموع. ومزيدٌ منها.
أظن أن حياتي تعومُ على وجه العبرات منذ عالم الذرّ وحتى البرزخ. عَومًا سرمديًا.
ترميني في زاويةِ القلب، تركلُني حتى تُغيّر لون جسدي، أزرقٌ وأسود. إن الذكريات ترسم بمهارة، وكُنت أنا اللوحة الوحيدة التي تملك. إنها تهوى لون الدم، لذلك كانت تجبُرني على لفظه من فمي ومن أنفي ومن جروحي المُبعثرة في جميع أنحاء جسدي. ولكي تصبح اللوحة أكثر احترافية: كانت تكسرُ بضع ضلوعٌ وعظام. ها هي اللوحة/أنا: تنضحُ ألمًا وفنّاً.
تتهافتُ عليّ الذكريات.. تأخذ كلّ ذكرى حقّها بالثأر.. تصفعُني، تلفُظ آلامها التي تراكمت طوال تلكَ السنين عليّ، تُلقي خطابها. ثمّ أُدفع، أركل إلى غيهب السقوط الدائم..
أسقط.. أسقط.. أسقط..
وتسقط معي كلّ تلكَ الدموع التي تبلوَرت يومًا فصارت ذكرى..
ضحكٌ عالٍ في الأعلى؛ الذكريات التي كانت تبكي.. أصبحت تضحك
نالت ما أرادت.. أن تُغرقني بدمعات الماضي.. أن تُجرّعني كلّ العبرات التي ذرفتها يومًا. وأن تخنقني بيدي.. بذكرياتي التي ربّيتُها أنا..
-
٣:٠٥صباحًا:
شهقةٌ عظيمة.. أسحبُ كلّ الهواء الذي حولي، ثمّ أحوله لسيلٍ يدرّ من عيني.. أتمرغُ فيه. في تَرعة دموعي.
كان حلمًا.
إن الذكريات تأتيني بغتةً وأنا نائمة؛ كي أستيقظ وأنا أحمل عبء حزنها على كاهلي. لا أستطيع التخلص منها. أنا فقط لا أستطيع
إنها لعنةٌ أبديّة. وعلّني سأحلم بها في قبري أيضًا.

تعليقات

المشاركات الشائعة