عندما تكتب الفقد.

عندما تكتب الفقد ، عِندما تمسك القلم وتَنوي سردَه فأنتَ عند إذٍ يجب أن تتأهب لتعذيب نفسكَ بنفسك ، أن تكونَ على أتمّ استِعداد للاحتضار والذبول. حينَ تكتُب الفقد فأنتَ تكتُب بحبرِكَ الخاص ، بحبرٍ أحمرٍ خالص. تكتُبه بذلك الحبر الذي يتسربُ من عروقكَ النّابضة إلى الورقة الشاحبة التي أمامك. عندما تكتُب الفقد فأنت تستنزفُك. تلفُظ جِراح روحك الفاقدة.

عند كتابتكَ للفقد فأنت تُنادي على إحساسكَ الذي سبقَ ومات, تندهُ عليه ليقوم من مقبرة المشاعر حتى يبعث فيك ألم البين مجدداً. تكتُب أنتَ من هُنا, ويترسّخُ فيكَ الفقد من هُناك, كي يُذيقكَ لوعة الاشتياق إلى الأبد. عجيبٌ أمركَ يا كاتبه, تكتُب وأنتَ تعلم أن الكتابة ستتسببُ بموتك, تكتُب وأنت تعلم أنكَ تحتضر ورُغم ذلك تُكمل! ألهذا الحدّ أنت مُشتاقٌ لمن رحل؟

عند كتابة الفقد تُستحضر الحياة من جديد وهي مُشوّهة, تشوبها وحشةٌ ووجع. تُعيد تلك الحياة التي فُقدت إلى الحياة! وأنتَ تكتبُ تَبدأ بالإهتمام بمشاعركَ المُمزّقة مجدداً بعد أن أهملتها عندما سببّت لكَ ندوباً لا تختفي. أنا أعلم, أشعُر بك. أنتَ لا تهتم بمشاعرك من أجلك. أنتَ تهتم بها كي تُقدّم الفقد للقرّاء وهو بأبهى حُلّة, كي تملأ أسطركَ بذاك الشعور الذي تسرطن فيك وجعل النور في عينيكَ ظلاماً. أنت تستعمل سلاح المشاعر لتضع القارئ في ذات موقفكَ المُظلم ، لتَرميه في غياهب الفقد كما رماك فيه موت من تحب.

عندما تكتُب الفقد فأنتَ تُحمّل نفسكَ ألماً عظيماً ، أعظم من الفقد نفسه. تُحاول تلخيصه في كلماتٍ قليلة ،ولكنه أمرٌ شبه مُستحيل. ورُغم ذلك أنتَ لا تقبل وتُكمل بكتابته, ولن تصدّق هذا إلى أن ترى نفسكَ مضرّجاً بدمعك بسبب استرجاع الذكريات. حينَ تُقرر كتابة الفقد فأنتَ تضع عبئاً ثقيلاً على عاتقك ، يجب أن تكون مسؤولاً ومُستعداَ.

حينَ تكتبُ الفقد فأنتَ تكتُبكَ. الفقد هو ما كوّنك ، ما جعل الأنتَ "أنتَ" حقاً. لولا ذلك الألم الذي أصاب روحك الهشّة منه لما كُنتَ أنتَ ، لما كتبت. أنتَ تكتُبه لتُري النّاس مرّ الفقد ، لتُطعمهم حنظل الفِراق كما تجرعتهُ أنتَ أنفاساً. أنتَ تكتبه لتغرز أنيابه في أعناقهم ، لتُدمي قُلوبهم كما أُدمي قلبك ، لتحلّ محلّ الحياة في هذه الجريمة.

أمُستعدٌ أنتَ لتحمل ذنب حُزن كل أولئك البشر؟ أن تقف أمام الربّ وتعترف أنكَ أنت الذي جرّعهم الترَح انتقاماً؟ كي لا تشعر به وحيداً؟ إننا نرى ألمك المختبئ خلف أحرفك, نرى الدموع المتعلقة بحرفك الأعوج. نرى كلّ شيء, كلّ فقدك. لا بأس يا كاتب, اكتُب واكتُب حتى يجفّ الفقد فيك, لا بأس, صبّر نفسك بالفقد إلى أن يحين موعد اللقاء وتنعم بالحياة به.
السلامُ عليكَ يا كاتب الفقد.


تعليقات

المشاركات الشائعة