مرّ عام..

عامٌ ولا يزال ذلك الجرحُ ينضحُ بالآلام.. والطفلُ الصغير في داخلي يصرُخ..
ما زال النومُ محرماً عليّ يا والدي.. والكوابيسُ والأحلام المليئة بالفقد والسواد تبتلعني..
رحيلُك ذاك سبب صدعًا يأبى أن يبرأ.
-
إنني أذكُر ذلك اليوم بكلّ تفاصيله.. بكلّ حناياه وترَحِه..
لم أنسَ الزجاجَ الذي تناثرَ كالغُبار.. ولا السوادَ الذي دثّر المكان
لا زلتُ -يا والدي- أذكُر تذكّري لكَ.. أذكُر اشتياقي
-
إنني لم أرَك مُنذ أكثر من أُسبوع.. أتيتُ المسجد ملهوفًا للُقياك.. لتقبيل رأسك وشمّ عبق الجنان من ثوبِك.
شاء القدر ، فجِئتُ مُتأخّرًا.. وكُنت أنت لا تُرى..
بدأت الصلاة ، فتأخر اللقاء..
لمحتُكَ مارًا من أمامي وأنا راكع.. حالما تنتهي الصلاة.. سآتيك شائقًا ملهوفا..
-
الرُكعة الأخيرة، السُجود الأول:
"سُبحان ربّي الأعلى وبحمده"
سجدنا.
تزاحمت الأرض بتمتمات المصلّين.. ذاك يتمنى ، ذاك يدعو ، وذاك يبكي..
نشعُر بأجنحة الملائكة ترفّ فوق رؤوسنا
علا صوتٌ من الخلف..
"الله أكبر..
إن الله مع الصابرين"

ومع ذلك.. أتممنا السجدة.. ونحن لا ندري ما الذي حدث..
علت الأصوات.. قطعت الصلوات.. اسودّ الكون..
-
لا يزالُ يا والدي غبارُ تلك اللحظات عالقاً في ذهني.. تلك الشظايا حتى الآن تخترقُ جسدي في كلّ سجود ، تجعلني قابلاً للموت.. للاستشهاد شوقًا إليك..
-
تفجّر السّواد في كلّ مكان ، وصار الموتُ -بالمجان- يُوزّع على المُصلّين ، مُغلفًا بالشهادة..
لم تكتمل الركعة.. لا أظنّ أن أحدًا استطاع إكمالها.. كان السوادُ يغطي وجوه المصلين فلم أعرف أيّ أحدٍ مِنهُم.. طغت رائحة الخُبث على رائحة الإيمان التي كُنت لتشعر بها حالما تطئ قدماك في هذا المسجد..
قُمت من مكاني وأنا أتجاهل كلّ ما يجري حولي.. أتجاهل الهرع والفزع.. أتجاهل تسارع النبضات وهروب الثواني من بين يديّ
وأفكّر فيكَ فقط..
أين صِرت؟
رحت راكضًا على الزجاج أبحثُ عنك.. من مشرق المسجد حتى مغربه.. حملتُ شهداء وساعدتُ جرحى.. ولم تزَل غائبًا يا نور عيني..
صرختُ أناديك.. أعلمُ أن جدار المسجد كاد يتصدع من كثرة الصراخ والنداءات ؛ ولكنني يا والدي على يقينٍ بأنكَ ستسمعُ ندائي من بين تلكَ الأصوات المليئة بالانفجاع.. متيقنٌ أنّك ستجيب ولدكَ الصغير..
نوديتُ من بعيدٍ باسمي.. "والدُكَ هنا"
تجاهلتُ بِركَ الزجاج التي غرقت بها قدمي.. وأتيتُكَ مُبتسماً فرِحاً بأنني سألقاك..
لقائي بك -بعد طول اشتياق- كان كالآتي..
"الدمُ ينزفُ من رجلي.. ومن رأسي..
الدمعُ ينزفُ من عيني.. والخوف واللهفة ينزفان من قلبي..
وأنت..
أيها الأب العظيم..
متَوسّدٌ كنف أحدهم..
مدّثرٌ بدمِك..
تنظُر للأعلى..
مُبتسم"
هكذا كان اللقاء.. لقاءٌ يُنبئ بطول الألم ودنوّ الفراق ، بنعيم عروجِك وشقاء البقاء..
هكذا.
أأقترب؟ أم أبقى هُنا.. تفصل بيني وبينك جثّتان وجريح؟
أأقترب؟ أم الفاجعةُ بانتظار ابنك الصغير؟
سأقترب.. إنني ياوالدي مُشتاق..
وسأفكّر بالعواقب لاحقًا..
-
رميتُ بجسدي عليك.. نظرتُ لعينيك.. انظُر إليّ! أرجوك!
أم جمالُ الجنان ومن فيها قد خطف بصرك؟
فلم تعد تكترث لما في الأرض.. راجيًا لما عند ربّ العباد؟
انتظر.. لا ترحل.. لا تزالُ هناك أمنية في صدري.. أريد أن أدفن نفسي في حضنك.. أن أتزوّد بكلّ ما أستطيع -منك- ، كي أداوي اشتياقي الذي بدأ يَتسرطنُ فيّ منذ الآن..
انتظر.. لا تزالُ هُناك كلمة متحشرجةٌ في حنجرتي.. متعلقةٌ بحبال صوتي..
"يبه"..
بصوت ذاك الطفل الصغير.. الذي كُنت تحملُه مُنذ عشرين عام..
وها هو الآن..
طفلكَ المدلل ، يا والده العظيم سيحملُك على أكتافه بعد يومٍ وافتجاع..
وداعًا..
-إن ذلك اليوم يا والدي.. لم يكُن يوماً واحداً وحسب. إنه يتكررُ كلّ ليلةٍ في أحلامي.. على مدى سنةٍ كاملة.. أنا أستيقظ على الألم ذاته وأتجرع القدر ذاته من الفقد-

تعليقات

المشاركات الشائعة