قصرُ الأيتام


في ذلكَ القصر رأيتُ أيتاماً , أيتاماً تلهو وتلعب , كانت تُناديكَ يا صاحب القصر "أبي" , كُنت أباً لهم. لم تكُن مُرحباً بالحُزن , كُنت تُقاتله كُلّما حاول أن يدخل بين أيتامِك , سيُرى الحُزن مجروحاً دائماً , مدمياً لا يتوقف دمه عن الجريان أبداً لأنه لا يعتبر , ولا زال يُحاول استوطان أيتامكَ وأنتَ تُحاربه بسيفك.

قد شيّدت القصر ياصاحبه بلبناتٍ من الحنيّة , وأجريتَ فيه أنهاراً من عطفٍ ورأفة. لقد سقيت أيتامكَ كأساً من الأُبوة الحقيقية التي فقدوها. تركتَ بابَ قصرك العظيم مفتوحاً ليدخله اليتيم متى شاء. شملتهُم في كنفكَ الرَّغيد حتى أصبح حضنكَ جنةً لهُم. كُل مُهج الأيتام تصبو إليك إن ابتعدَت عنكَ قليلاً. أصبحتَ أنتَ عالمهُم بدل ذلك العالم الذي قلاهُم لأنهم أيتام. وعدتهُم بالأمان الدائم ووفيتَ بوعدك.

ولكن يا أب الأيتام في يومٍ من الأيام أرادت الدّنيا الإنتقام منك والوِتر , فأرسلت أحد جُنودها الذين ابتاعوا رغد الدّنيا وتخلوا عن هناء الآخرة. لم ترد الدّنيا الدّنيّة أن ترى الأيتام في أمان , فلم تجِد طريقةً لتُيتّمهم من جديد سوى الإنتقام منك , فأغوت أحد التابعين لها بكل ما تميل له نفسه وأمرته بأخذ الثأر منك لأنكَ آويتَ الأيتام.

عِندما ارتفع السّيف وأنتَ تُصلي , ظلّ ملَكُ الموت يحومُ قُربك وهو يبكي. أزفَ منكَ ذلك اللعين واستلَّ حسامه الجبان من غُمده , وأنتَ في قيامٍ من الرُّكوع ضربكَ ضربةً فلقَت رأسكَ إلى نصفين فصرخت صابِراً "فُزتُ وربّ الكعبة"..

في مثل ذلكَ الوقت , اهتزّ وتزعزع القصرُ والأيتامُ فيه , بدأ السّقفُ بالتَساقط على رُؤوسهم والجُدرانُ تتحطم. هُدم القصر , وجفّت أنهارُ العطف , ولأول مرة أصبح الحُزن بينَ أيتامه , وأناخَ في قلوبهم. نزفت عُيونهم عبراتْ لأول مرة فتعجبوا , عرفوا الدمع والبُكاء عِندما انهدم القصر , عِندما قُتل أباهم. هُدم قصرهم المُرتفع القُبب , العظيم , الضّام لهم بضربة سيف. عِندما رُفع السّيف وضرب رأس أباهُم فُلق رأسه وهُدم قصرهُم.

عِندما نزفَ الأب , لم ينزف دماً , بل نزفَ أيتاماً , ونزف عطفاً وحناناً , نزف هؤلاك الذين أُبوّتهم ثوَت فيه. عِند مِحرابه تجرمزت الأيتام. ذاكَ الطفل يضمّ الرأس ويُقبّله , وآخرٌ يتضرج بدماء أبيه. في ذلك المِحراب أبٌ مقتول , قصرٌ مهدوم..
في العزاء دخَل ملَكُ الموت , وجلسَ بينَ الأيتام , هو الآن يتيمُكَ أيضاً , يبكي كما تبكي أيتامُكَ. عِندما حانَ وقتُ الصلاة اعتلى البُكاء فكُنت أنت صاحب الصوت الدويّ الذي يصدح حالما تحينُ صلاة الرب ولكنك ظعنت وحُرم اليتامى من صوتك. قام أحدُ الأيتام لرفع الأذان..:
" الله أكبر .. الله أكبر
أشهدُ أنّ لا إله إلا الله .. أشهدُ أنّ لا إله إلا الله
أشهدُ أنَ مُحمداً رسول الله .. أشهدُ أن محمدٌ رسول الله
أشهدُ أن عليّاً أبانا وولي الله .. أشهدُ أنّ فقدُ عليٍ قد هدّم دُنيانا.. "
 
بقتلِ ابن أبي طالبٍ انهدمت الدُّنيا على الأيتام..

لجّ بهم الشّوق فبكوا قُرب مِحرابكَ , بكوا على نفسهم , لقد ضاعوا بعدكَ يا أب..

تعليقات

المشاركات الشائعة