أنا والحرب(1)

تسقط الحرب..
المشتّتة ، المُبيدة
تسقط قاهرة الطفولة
سالبة الجمال ، والحياة
تسقط.
-
إنني أبلغُ من العمر عشر سنوات ، من المُفترض أن أكون طفلة ؛ ولكنّني عجوزٌ كالهة ، وشابّة في الوقت ذاته. إنني لا أملك شيئاً سوى أهلي ، وعِلب الكبريت التي أبيعها في الأزقّة ، والحرب. أُمي امرأةٌ مُكافحة ، تبذلُ كلّ ما تملك من أجلنا. لديَ أخٌ توأم ، وأخٌ أصغر يبلغُ من العُمر سبع سنينٍ عجاف. أما أبي.. فقبل ثلاث سنوات قد سقط في دوّامة الحرب ولم يرجع لنا إلا شهيداً..
إنني يدُ أمي اليُمنى ، أُساعدها في كلّ الأمور ، وأنا غالباً من يذهب لشراء مُستلزماتنا برفقة أخي التوأم ، مُحاطين بالدعواتِ والقبلات. مُذ أن رحلَ والدي وأمي تتجرعُ الخوفَ علينا بشكلٍ فظيع ، إلى حدّ الإدمان والهوس. على أي حال؛ في هذا الأسبوع، أحاطَت قوّات العدوّ بالحيّ الذي نقطن فيه. إن الجنود تتجول حاملةً أسلحتها ، بشكلٍ مرعب. أبَت أمي أن أذهب أنا للسّوق ، ومنعتني من بيع علب الكَبريت. كنّا نحتاج بضع أشياءٍ. قالت لي أنّها ستذهب وترجع بسرعة قبل أن يشعر أخواني بها. لم أرضَ فنحنُ -إخواني بالأخص-نحتاجها ، والذهاب غير آمن ، يفضّل أن أذهب أنا. لم تقبل أمي وأصرّت على الذهاب حتى رضختُ في النهاية.
قبلتُها وضممتها ثمّ ذهَبَت وذهبتُ أنا لمجالسة أخوَتي النيام. جلستُ عند النافذة أنظُر للشارع المَبسوط على وجهه بساطُ الحربِ الأحمر. كان هناك ثلاث جنود يحرسون الحيّ من.. أنفسهم! لا أدري ما الذي يجب حمايتنا منه سواهم! كان أحدهم مُمسكٌ بسلاح بيده ، والسيجارة في فمه وهو يضحكُ ويتقهقه. رفع رأسه ورآني ، ارتعبتُ فاختبأتُ خلف الستائر المسدولة.
بعد مرور نصف ساعة.. رأيتُ أميَ مقبلةً من بعيد ، تنفستُ الصعداء ، إنها بأمان. سرحتُ أنظُر بجمالها الملائكي، بسحر عينيها الغارقتين بالخوف والتعب ، بوجهها الطاهر جداً ، المُدنّس بفعل الرعب والعبء. شوّهتها الحرب.. ولكنها لا تزال جميلة. رأيتها فابتسمت.
أتأمل ذلك القمر وهوَ يقترب ، فتزداد ضرباتُ قلبي ، وتتورّد ابتسامتي. اقتربت كثيراً كثيراً ، كثيراً! كان بينَ أميَ والباب بضع عشر خطوة.. فإذا بصرختِها تعلو ، والدماء تنفجرُ من صدرها...
سقطت علبُ الحليب والماء وسقط الطعام من سلّة أمي
سقطت هي
تسقط الحرب.
توقفت نبضاتُ قلبي ، شُلّ جسدي ، اسودّ الكونُ في عيني ، وشعّ البياضُ من جسدِ "ماما" الطاهر ، من جسدها هيَ فقط. رفعتُ رأسي ، رأيته ، هو ذلك صاحب الضحكة الحقيرة ، رأيته يقترب من جسدها ، يرمي سيجارته بجانب رأس أمي وهي تتلوى وتتأوه ألماً ، يدهسها ، ثم يرفع رأسه ، ينظر إليّ ويضحك.
استجمعتُ فتات قواي ، نهضتُ وركضت إلى الأسفل ثم إلى الخارج ، رميتُ نفسي على جسدِ أمي ، خارَت طاقتي بالبُكاء. صرختُ في وجهه وأنا أستنزفُ الدمع
"أيّها الشيطان الرجيم"
ضحك ، ابنُ الـ ..خوف قد ضحك!
"أيّها الجبان ، أتستعرضُ قواكَ على الضعفاء؟"
رفعَ السلاح في وجهي
"اخرُسي وإلا لقّنتك من الجبان يا طفلة!"
دفعني ، رماني على الأرض بجانبها
"هيا أيها الجبان ، هيا اقتلني ، كُن رجلاً واقتلني"
ضحك من جديد! ولا زال يضحك! "لا ، سأدعكِ تتعذبين بفراق أمك ياحبيبتي.."
رفعتُ نفسي ونظرتُ إلى أمي..
"لن تتركينني ، صحيح؟"
ابتسمَت ، وغدرتها الدمعات..
"وكّلتكِ أمر إخوتِك ، كوني لهم أماً وأُخت..
أعتذرُ على ما أورثتكِ إياه في صغركِ يا صغيرتي..
سامحيني
سامحيني لأنني سمحتُ للحرب أن تشقّ طريقها إليكِ"
أغمضت عيناها ، وصار البدر التّمام محاقا..
رحلت أمي
سقطَ البدرُ من سمائي
تسقُط الحرب.

تعليقات

المشاركات الشائعة