سذاجة طفل.


يسكُن في بيتٍ تهدّمت أركانه و سقط بهِ ركنٌ من الأركان ، منزلٌ قد غابَت عنهُ الحياة و احتَّل عليه المَمات ، قد غابَت الرّوح الحَنونة عن هذا المَنزل ، و غابت النّفس الطيّبة ، عرَجت روحُه إلى السّماء ، روحُ الأب|الجَد الحَنون
طفلٌ يبلغُ من العُمر خمس سنَوات ، لا يرى الدُّنيا إلا بزُخرفها و خُلودِها ، أكبر اهتِماماته متى سيُعرض برنامجه المُفضّل ، أشد الأُمور خوفاً مِنها أن تغضب عليه أُمه أو أن تمنعهُ مِن اللّعب في الخارِج.
كانَ ذاك الطِفل قريبٌ جداً مِن قلب الرّوح الرّاحلة -أسكنهُ الله واسع جناته- ، حبيبهُ الأول ، حفيدُه المُحبّب ، كانَ الفقيدُ يبتسم حالَما يرى حفيدُه مُقبلاً إليه ، و كان الحفيدُ يفرح حالما يحل يومَ لِقائه بجدِه.
عِندما مرِض الجّد ، كانَ مرضاً شديداً ، مرضاً يُنبؤ أحباءه بأن فِراقهُ قريب ، كانَ مرضُه مُقدمةً لفجيعةٍ كُبرى.
في أيام مرضِه ، كانَ يوصي دائِماً بأن يرى حفيدهُ القريب مِن قلبه ، و كأنهُ يُريد أن يشبعَ عينيه مِن رُؤيته حتى لا يشتاق له سريعاً ، كان كُلما يذهب الحفيدُ إلى جده ، يبكي الجَد ، تنزلُ دمعات حارِقة على وجهِه مِعلنةً انكِساره أمام الطِفل و حُبه ، و  كانَ الطِفل يُنادي جده دائماً مُنتظراً الرّد ، ولكنه لا يستطيه أن يتكلم فيكتفي بدُموع.

٣٠-يوليو-٢٠١٤
اليوم الأخير ، ليلةَ الفراق ، كانَ الجد قد اكتفى مِن حياته و أراد العودَة إلى ربّه ، كان بالكاد يفتحُ عينيه ، ذهب ذاك الطِفل الصّغير إليه ، كان هادِئاً في البِداية و كان الجد مُغمضاً عينيه مِن شدة التّعب ، انتظَر الطفل استيقاظ جدّه ، و أخذ يجول في الغُرفة مُحاولاً عدم اصدار صوت حتى لا يؤذي حبيبه.
استيقظَ الجد و عرف الطّفل ، فهرول إلى حيث فِراشه ، و نادى أُمه كي ترفَعه ، نظَر الطّفل إلى عينيّ جدّه فأخذ بالبُكاء حتى بللّت دموعه ثياب والِدته ، صَرخ كثيراً و كأنه عرف بالأمر ، ثم دفن رأسُه بين أكناف أُمه ، و كانت علامات التّعجب و الإستفهام ترتسم على وُجوهنا فنحن لا ندري لماذا بكى فإنه لم يبكِ أبداً ، رأى الجد حفيده فصبّت الدّموع من عينيه كنهرٍ جارٍ..

٣١-يوليو-٢٠١٤
في نفسِ تلك الليلة ، السّاعة ١٢:٠١ ليلاً ، كان الجَد قد فارَق الحَياة و زفَر أنفاسه الأخيرة ، فجيعةٌ بالنسبة إلى عائلته ، النّساء بين بُكاءٍ و عَويل ، و الرّجال مُطرقون رؤوسهم إلى الأرض حُزناً ، الكُل يدري ، ماعَدا ذاك الحَفيد ، كان نائِماً ، و تَركوه نائماً ، و بقيّ نائماً عن موت جدِه حتى الآن..
مرت أيام العَزاء الثَلاثة ببطئٍ شديد ، و الطِفل بعيدٌ عن أمه و أبيه و أخواته ، حتى لا يرى انفِجاعهم ، إنهم يُخبئون عنه موت جده ، حتى انتهت أيام العَزاء ، و رجَع الطفل إلى أحضان عائلته ، سأل أمه : "أين جَدي؟" ، تلعثَمت أمه ثم قالت له "إنّه مُسافر ، ذهب عندَ الله" ، "متى سيرجع؟" ، كان هذا السّؤال المُفجع الذي فتّت قلوب مَن كان حاضراً ، "لا أدري" قالتها الأم و الدّموع تحتل عيناها ، "سيرجع قريباً ، إنه وعدني بأنه سيأخذني للّعب و جدي لا يخلف وعده أبداً" قالها و هو يصعد الدرج مُمسكاً بلعبةٍ أعطاها أياه جده.
مرّت الأيام و لازال الطّفل على أمل رُجوع جدّه ، كانَ يسألُ يومياً متى سيرجع جدي؟ لماذا تأخر؟ هل سيبقى عند الله كثيراً؟ لماذا رحل لله ، ألا يحبني؟

مرّت على رحيل الجد ثمانيةُ أشهر ، و لازال الحفيد على أمل ، في صباح يومٍ مِن الأيام كان الطِفل يلعب بألعابه ، يقودُ السّيارات و الطائِرات بتفاعلٍ قوي ، رنّ جرسُ الباب ، فزّ قلبه ، ركضَ إلى أسفل و صرَخ في كُل أرجاء المَنزل "جدي رجَع ، جدي رجَع إلينا ، سأرى جدي!" و الإبتسامة لا تُخفى ، بشّر الجميع برجُوع الفقيد ، ذهَب لفَتح الباب ، و خابَ أمله ، رأى والده و سأله : "أبي لماذا لم يأتِ معكَ جدي" , "غداً بُني" كان ردُ الأب بإنكِسار ، رجع الابنُ إلى الدّاخل ، مكسوراً مسروراً ، مخذولاً مُؤملاً , أملهُ برجوع الفقيد مُجرد سذاجة طفل..



وسانتظر حتى يُصبح رُجوعك المُستحيل مُمكناً..

تعليقات

المشاركات الشائعة